توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

لو كان الإنسان ذئباً لما تحضر

استمع إلى المقالة

قبل عقدين من الزمن تقريباً، كانت الدكتورة منى البليهد تعد أطروحتها للدكتوراه، حول «الهوية الثقافية لدى طلاب وطالبات المرحلة الثانوية في المملكة». وفي إطار الأبحاث الميدانية المتعلقة بالموضوع، سألت د. البليهد عينة من طلبة الثالث الثانوي عن رأيهم في القول السائر «إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب»، فأجاب 70 في المائة منهم بالموافقة عليه، أي أنهم مقتنعون بأنه لا يمنع الناس من العدوان عليك إلا خوفهم منك. ثم تساءلت الباحثة: بعد بضع سنين سيلتحق هؤلاء بسوق العمل، وسيتعاملون مع الناس، فهل سيتمثلون دور الذئب حينذاك؟

تذكرت هذه القصة القديمة نوعاً ما، حين صادفت هذا الأسبوع أربعة كتاب، اتفقوا في مقالاتهم على أن الإنسان فاسد بطبعه، وهذا ما يبرر ظلم الناس لبعضهم البعض، لا سيما من لا يعرفونهم.

أعلم أن كثيراً من القراء الأعزاء يعدون هذا الأمر من قبيل المسلمات. وربما استغربوا اعتراضي على الفكرة وإنكارها جملة وتفصيلاً، فكيف تنكر ما أجمع عليه أهل العلم والشعراء جيلاً بعد جيل؟

والحق أن غالب الثقافات القديمة - ومن بينها العربية - تميل بقوة إلى هذا المنحى. ولذا احتفل أسلافنا ومعاصرونا بأمثال قول المتنبي:

الظلم من شيم النفوس فإن تجد... ذا عفة فلعلة لا يظلم

وقول زهير بن أبي سلمى:

ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم... ومن لا يظلم الناس يُظْلمِ

ورأيت عدداً من أجلّاء المفسرين يصرف الآية المباركة «وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً» إلى المعنى السابق نفسه، أي فساد الطبيعة البشرية.

ولعل القراء الأعزاء قد لاحظوا أن فهم الطبيعة البشرية على هذا النحو، قد اتصل بمفهوم الشجاعة، فتحول المفهوم المركب إلى تقديس للقوة المادية واحتفاء بالسيف، كما في شعر زهير السابق الذي يحتفي بظلم الغير حماية للأرض والعرض، وكأن هذا لا يسلم إلا بذاك، بل قيل هذا صراحة على لسان المتنبي: «لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى... حتى يراق على جوانبه الدم»، ومثله قول أبي تمام: «السيف أصدق إنباء من الكتب». مع أن الكتاب يصون حياة خلق الله والسيف يهدرها، فلا أدري كيف يكون هذا أصدق من ذاك؟

لا بد من إيضاح أن تلك الأبيات، قيلت جميعاً لمناسبات بعينها. ولعل أصحابها لم يقصدوا أن تكون الفكرة بذاتها مطلقة. لكن واقع الحال يخبرنا أن الرسالة الداخلية لكل منها، قد تجردت عن ظرفها الخاص، وتحولت إلى مسلمة يتبادلها الناس في مختلف أزمانهم وأحوالهم، من دون أن يتوقفوا قليلاً لمساءلتها أو التأمل في معناها، وهو معنى ناقص ومجروح قطعاً، إن لم نقل إنه خطأ في الجملة والتفصيل.

من المفهوم أن الأمم والثقافات كافة تحتفي بالسيف والسلاح. لكن عصر النهضة الأوروبية شهد حدثاً مهماً، هو انكماش الفهم القديم للطبيعة البشرية، وبروز مفهوم نقيض ينظر للإنسان باعتباره عاقلاً وخيراً، بمعنى أنه لو وقف أمام خيارين، فسوف يختار ما هو أصلح له ولغيره: إنه يختار ما يصلح له لأنه عقلاني يحسب عواقب الأفعال، وهو يختار ما ينفع غيره إن لم يكن به ضرر على نفسه، لأنه كائن أخلاقي. وفقاً للفيلسوف المعاصر جون رولز، فإن ما يميز الإنسان عن بقية الكائنات، هو قابليته لاكتشاف العدل والخير في الأشياء والأفعال، وتمييزه عن الشر، واختيار الخير في معناه العام.

الحقيقة أنه لولا عقلانية الإنسان وخيريته، لما تقدمت البشرية، ولبقيت مثلما كانت قبل آلاف السنين. إن فعل الخير لا ينحصر في مساعدة الفقير والمسكين، بل يشمل كل عمل يسهم في عمران الأرض وتحسين حياة البشر وتطورها في أي صورة من الصور. وكل ما نراه من حولنا شاهد على عقلانية الإنسان وخيريته.